ما يحدث هذه الأيام من هجوم عاتٍ على جماعة الإخوان المسلمين بعد ترشيحهم لخيرت الشاطر رئيسًا للجمهورية، عايشته من قبل كثيرًا ورأيت مثله مرارًا في مواقف شتى.. منها ما قرأته تاريخًا ومنها ما سمعته من أصحابه أحياء معاصرين، ومنها ما عاينته أنا بنفسي وكنت طرفًا فيه ولذلك فلست منزعجًا ألبتة من هذا الهرج والمرج لأني رأيت نفس هذا الفيلم من قبل وتابعت أحداثه للنهاية.
ولذلك فإني أجلس خالي الذهن مرتاح البال والدنيا من حولي تموج وتضطرب غير آبه، كما قال عبقري الشعر العربي المتنبي وهو ينظم القصيدة في دقائق ويلقي بها لجمهور النقاد والمستمعين فيطيلوا السهر في دراستها والبحث في أوجه الجمال فيها وألوان الإبداع وهو نائم قرير العين فيقول
أنام ملء جفوني عن شواردها * ويسهر الخلق جراها ويختصم
والشاب النابه الدكتور المعتز بالله عبد الفتاح وهو أستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية كان يتحدث عن الثورة المصرية المباركة في 25 يناير قائلاً عن توابع الثورة وما تسفر عنه من أحداث: "هذا الكتاب قرأته من قبل"، فقد توافر الرجل على دراسة الثورات الحديثة وما أنتجته في بلدان شتى بظروف وأجواء متباينة ثم خرج لنا بحصيلة وافرة من التوقعات، والتي فيها قدر محترم من العلم والتقييم الواقعي وكأنه يقرأ الأحداث فعلاً من كتاب مفتوح أمامه.
والحقيقة لم أكن أود إضاعة الوقت في شرح ما يحدث هذه الأيام والمنافحة عن موقف جماعة الإخوان المسلمين والذب عنهم؛ لأن المبدأ الذي اكتسبته من جماعة الإخوان المسلمين بعد هذه العقود من المشاركة معهم أن العمل الجاد والإيجابي والمستمر أفضل كثيرًا من الوقوف لتفنيد الإدعاءات والرد على الشبهات وإثبات المواقف (وهي خاصية لا يكتسبها الأخ إلا بعد طول مجاهدة).
ولكن جاءت مقالة الكاتب الكبير والمحترم فهمي هويدي بالأمس في جريدة الشروق، والتي تحمل عنوانًا مثيرًا (ووقع الإخوان في الفخ) لتدفعني دفعًا للرد على بعض ما ورد فيها.
ولأن الكاتب قامة وقيمة وليس من جوقة الطبالين والزمارين إياهم، فقد وجدت لزامًا عليّ أن أعلق على بعض ما ذكره الكاتب الفاضل توضيحًا لشباب الإخوان حديثي العهد بالدعوة وتصحيحًا لبعض المفاهيم المغلوطة أيضًا.
ما تواجهه الجماعة هذه الأيام من حرب شرسة وتشكيك وإرجاف ليس بدعًا من الأمر بل مر بالجماعة ألوان شتى من هذه المعارك والانقسامات من قبل ثم خرجت متعافيةً أكثر قوةً وصلابةً عن ذي قبل بل ولقد مرَّت جماعة المسلمين نفسها في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم بمثل هذا وأكثر.
مرت بالمسلمين فتنة كبيرة في حادثة الإفك، والتي مست بيت النبوة الطاهر نفسه، ومرت بالمسلمين فتنة الحصار المضني للمدينة بواسطة الأحزاب؛ حيث تشكك من تشكك وأرجف من أرجف، وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا، وهنالك ابتلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديدًا، كما وصفهم الحق سبحانه.
ومرَّت بالمسلمين فتنة التردد والذي أشبه التمرد في صلح الحديبية، والذي يمكن أن يكون نموذجًا لما نعايشه اليوم.
عندما تعصف الفتنة بالجماعة سوف تلحظ خمسة عناصر مشتركة ومتشابهة في كل مرة؛ وقارن بين صلح الحديبية وذلك اللغط الذي يعصف بالجماعة هذه الأيام وما نشاهده من أحداث وملابسات وابحث عن تلك العناصر الخمس، والتي تكاد تكون متطابقة.
العنصر الأول: أن الخلاف بين قيادة الجماعة وأفرادها لم يكن في الثوابت أو المبادئ الأساسية بل في فروع السياسات والمواءمات، وترجيحات للمصالح والمفاسد ولم يكن أبدًا في تحليل حرام أو تحريم لحلال.
العنصر الثاني: يقف على رأس المخالفين رجل له قامة سامقة وصوت مسموع وأتباع يتأثرون، فقد كان عمر بن الخطاب هو من تَولى كبر الاعتراض على الرسول صلي الله عليه وسلم (تعصبًا للحق وتمسكًا بالمبدأ بظنه)، بل واستخدم عبارات فيها من الحدة ما وسعه صدر الرسول صلي الله عليه وسلم الرحب فكان عمر يجاهر بقوله: ألسنا على الحق وهم على الباطل فلم نقبل الدنية في ديننا؟، فكانت كلمات الصديق ذلك الرجل الحصيف الملتزم بالصف والملتصق بالجماعة وقائدها والذي يدور مع رحاها؛ حيث دارت فيقول له: إلزم غرسك يا عمر.
ومن يقرأ تاريخ الإخوان المسلمين سوف يرى نفس الرجال الكبار ذوي المكانة والسبق في الدعوة هم من يناوئون الجماعة ويثيرون فيها اللغط ولو كانوا أشخاصًا عاديين لم يأبه بهم أحد ولما كان للفتنة أثر.
واقرءوا تاريخ الإخوان بدءًا من أحمد السكري الرجل الثاني بعد حسن البنا ثم الرباعي الصلب الذي شغب على المرشد الثاني حسن الهضيبي، وهم الشيوخ الأجلاء الباقوري والغزالي وصالح عشماوي وصالح أبو رقيق وكل منهم كان يرى نفسه أجدر بخلافة حسن البنا من هذا الهضيبي المجهول، والذي ليس له قصب سبق في الدعوة ولا يملك قدرات الخطابة وكاريزما الزعامة مثل هؤلاء الذين لا يشق لهم غبار في مضمار الدعوة ودروبها.
ثم عشنا خلافات إخوان لنا تعلمنا منهم وتأثرنا بهم.. أحباب لنا أعزاء علينا كانوا ملء السمع والبصر في الجماعة من أبو العلا ماضي وفتنة حزب الوسط والذي تابعه عصام سلطان، وقد كان شبلاً في الدعوة نفخر به وتسعدنا بلاغته وجرأته، ثم يخرج بعدهم إبراهيم الزعفراني وحامد الدفراوي ومن قبلهم محمد حبيب ثم الوتد العتيد والأخ الصنديد الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، وبقيت الجماعة على عافيتها وبصحة جسدها، والذي لا تزيده الأنواء إلا قوة ولا تضره الفتنة إلا أذى ثم ما تلبث أن تنفث عن جسدها النقي ما يرجفون وتمحص من الصف من يترددون وهم بين هذا وذاك مذبذبون.
ولكي يكون الإرجاف في الصف مؤثرًا لا بد أن يقود الحملة رجال لهم مكانة وقيمة ولهم في القلوب محبة ولهم في العمل سابقة ومكان حتى يكون التمحيص والفرز، وهذا درس بالغ للشباب وهم في محضن التربية أن يدوروا مع الحق؛ حيث دار وألا يفتنوا بشخص مهما علا كعبه أو بلغ شأنه فالمرء لا تؤمن عليه الفتنة.
ولذلك يذكر الإمام الشهيد حسن البنا تلك النصيحة الغالية، والتي أسداها له داعية سوري نابه وقد أوردها في كتابه مذكرات الدعوة والداعية حيث قال له: واحذر أن تضم لجماعتك عالم متفلت فإنه بعلمه يفتن الجماعة وبتفلته يرجف في الصف.
العنصر الثالث: سوف تلحظ حتى تحكم الفتنة قبضتها وتؤتي ثمارها أن من يحمل راية المخالفة عادةً ما يكون صاحب كلام وجيه ومؤثر، وغالبًا ما يدغدغ عواطف ومشاعر الأفراد بالجماعة ولاحظ كلمات عمر بن الخطاب النارية والحماسية وأثرها في هؤلاء الجنود الذين تكبدوا المشاق لتحقيق حلمهم في دخول مكة معتمرين وقريش تأبي إلا أن تصدهم بصلف وغرور لا مبرر له وفي المقابل ربما لم تكن حجة الجماعة وقادتها ألحن من شانئيها أو مقنعة لمعارضيها، وهنا يختلط الصواب والخطأ وندخل في التشكيك والتوهم، وخاصةً لو كانت القيادة عندها من المبررات والدوافع ما لا تستطيع أن تجاهر به لظروف تعلمها وليس من المصلحة عرضها على الناس جهارًا فيأتي ركن الثقة في البيعة عاصمًا للفرد من الزلل وحافظًا له من النكول.
العنصر الرابع: عادة ما تتعرض الجماعة أو المؤسسة وقت الفتنة لحملة تشويه وتشكيك وتحامل وتكون فرصة لأعدائها حتى يزيدوا الأمر اشتعالاً ويهيجوا المعارضين ويشجعوهم فتجد من خرج على الجماعة، وقد كان بالأمس فردًا عاديًّا من جموع أفرادها أصبح ملء السمع والبصر تستضيفه الفضائيات وتطلبه المحطات حتى إذا نالت منه بغيتها وقضت منه وطرها لفظته نسيًا منسيًّا يجتر ذكرياته حسرة ويندب حظه أسى ولوعةً.
وعندما خرج الرسول صلي الله عليه وسلم من المدينة قاصدًا مكة وقد وعد المسلمين بالدخول للبيت الحرام بل وساق الهدي أمامه ليؤكد لقريش سلمية الرحلة وأنهم بملابس الإحرام وأسلحتهم الخفيفة يرسلون رسائل طمأنة، ولكن لم تحسن قريش استقبالها وبعد عقد المعاهدة والتي رأى الكثير من المسلمين أنها مجحفة، قام الرسول صلى الله عليه وسلم بحلق رأسه تحللاً من عمرته وأمر الناس بالعودة، وهنا تذمر البعض من هذا التراجع في القرار وتغيير ما تم الاتفاق عليه وأظن أن جموع المنافقين بالمدينة لو كانت تملك الكمبيوتر أو الفضائيات آنذاك لدشنت حملة تشويه تواجه بها النبي صلي الله عليه وسلم ومن معه وأسمتها (كاذبون)، وقد وقف المعترضون يواجهون النبي بهذا القرار المخالف لما سبق وأن أعلنه بأنهم سيدخلون المسجد الحرام فقال لهم فعلا وعدتكم ولكن هل قلت لكم هذا العام..؟ ونزل قرآن يؤيد مقولة النبي صلي الله عليه وسلم:
(لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين).
العنصر الخامس: سوف تلاحظ أيضًا أن الفتن الكبرى، والتي تصيب المسلمين عادةً ما تكون عقب نصر أو بروز لشأن الجماعة، ويبدو أنها سنة ربانية ماضية حتى يمحص الصف من هذه الجموع النفعية التي انضوت تحت راية الجماعة ابتغاء دنيا تصيبها أو مكانة تحصلها "وما أكثرهم عند الطمع وما أقلهم عند الفزع".
فنري انكسارة الجماعة في أُحد بعد نصرها المؤزر في بدر، وانهزام المسلمين عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حنين بعد الفتح العظيم لمكة وإعداد جيش لم تره العرب من قبل مما جعل المسلمين يقولون لن نُهزم اليوم من قلة، وهنا انطلق المسلمون حديثو العهد بالإسلام (الطلقاء كما كانوا يوصفون)، والذين لم تعرك عودهم التربية في دار الأرقم بن أبي الأرقم نراهم وقد فروا صارخين وهم يتنادون.. اليوم انكشف السحر وزال.
وهذه المعركة الضروس والتي تدور رحاها ببر مصر اليوم بعد أن نصر الله الثورة وبعد الثقة الكبرى التي أولاها الشعب للإخوان المسلمين في انتخابات الشعب والشورى والنقابات وهيئات التدريس وهو ما لم تحققه الجماعة على مدار ثلاث وثمانين سنة من عمرها؛ ما جعلهم هدفًا لكل رامٍ ومطعنا لكل مشككٍ أو حقودٍ، وهي الحملة التي لم يتعرض لها الإخوان من قبل حتى وهم مطاردون محظورون.
هذه العناصر الخمس والتي ذكرتها آنفًا تعدُّ القاسم المشترك فيما تتعرض له الجماعات والهيئات من فتنٍ أو انقسام.
وأما مقالة الكاتب الكبير الأستاذ فهمي هويدي فقد ورد فيها بعض الافتراضات المغلوطة والتي تحتاج لتصحيح وعذره أنه يراقب الأمور عن بعدٍ ولم ينخرط في جماعة الإخوان كعضو عامل ومشارك في التنظيم ليعرف الآلية التي يتخذ بها القرار ويتم بها تسيير الأمور.
فمثلاً عندما يصوت مجلس الشورى على ترشيح الشاطر وتسفر النتائج عن أغلبية ضعيفة حتى ولو كانت موافقة 56 ومعارضة 52 كما ذكر، فقد يقول البعض إن هذه الأغلبية لا تصلح في القرارات الكبرى والحاسمة ولكن الشورى كما أفهمها بالإخوان أن الرأي يتم تداوله ويقول كل فرد ما يعن له من موافقةٍ أو اعتراضٍ حتى إذا اتخذ القرار تحوَّل الجميع على قلبِ رجلٍ واحدٍ يتبنون ما أسفر عنه التصويت ولو بأغلبية فرد وعند التنفيذ قد تجد المعترض أشد حماسًا وأكثر التزامًا في التنفيذ من الموافق وهكذا تستقيم الأمور.
والسؤال المتكرر، والذي طرحه الكاتب الكبير، لماذا لم يؤيد الإخوان عبد المنعم أبو الفتوح رئيسا بل ويعيدوه للصف طالما غيروا رأيهم في مسألة الترشيح والجواب الذي ينبغي التأكيد عليه وتكرار ذكره أن الإخوان عندما قرروا فصل الدكتور الكريم الفاضل لم يكن لأنه قرر الترشح للرئاسة بل لأنه خالف قرار الجماعة الملزم لأفرادها، وخرج على مقرراتها فكان الدكتور معزولاً من العمل بالجماعة حتى لو لم يرشح نفسه بعد ذلك.
وفي النهاية لمن سأعطي صوتي في انتخابات الرئاسة؟
سؤال صعب عند جموع الناس ولكنه سهل جدًّا عند مَن تربَّى في محضن الدعوة
سأعطي صوتي لمن ترشحه الجماعة ولا آلوي.
حوار دار بيني وبين ولدي منذ أيام وقبل ترشيح الشاطر وكان يفاضل بين الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والشيخ حازم أبو إسماعيل
قلت له لا يوجد مرشح في كل من علي الساحة بنقاء وثورية وصدق وكفاءة وإخلاص وتفاني عبد المنعم أبو الفتوح فقال ولدي طبعًا فأنت تحبه من زمن وبينكما ود وعاطفة وسجن تشاركتما فيه بليمان طره بنفس الزنزانة ونفس الجوار.
قلت له والله يا بني وإني لأحبه أكثر من أي إنسان علي وجه الأرض أقولها بلا مبالغة ولا تزيد ولولا الشطط لقلت أحبه أكثر من نفسي وأهلي والناس أجمعين ولكنها مكانة لا تنبغي إلا لرسول الله صلي الله عليه وسلم؛ ولذلك حسبي أن أقول أحب لعبد المنعم ما أحبه لنفسي.
فقال ولدي طبعًا ستؤيده في انتخابات الرئاسة؟
فقلت على الفور سأؤيد مَن تختاره الجماعة فانه عهد وميثاق والمسألة تدينا ندين به لله وليس رأيا سياسيا أو اختيارا شخصيا .. فقال ولدي ولو كان من تختاره الجماعة أقل كفاءة أو قدرة؟ فأردت أن أضرب له أمثلة بأبعد مما يتصور فقلت له حتى لو وصل الأمر أن رشحت الجماعة رفعت السعيد الشيوعي أو حتى محمد أبو حامد طفل ساويرس المدلل (الشهير بنائب الخرطوش) ثم أردت الممازحة فقلت له حتى يا سيدي لو وصل الأمر أن رشحوا توفيق عكاشة ببطه وتزغيطه وبابا غنوجه.
فقال: وأين رأيك وأين إرادتك؟ هل الإخوان إمعات مجرد السمع والطاعة كما يقولون؟ فقلت له ما نفعله هو قمة الإيجابية والذكاء والقوة.. كلنا على قلب رجلٍ واحدٍ لنحفظ للجماعة هيبتها وقوتها وتأثيرها ولتكون كتلتها التصويتية ذات أثر وفائدة طالما نملك فيها حرية النقاش والتعبير عن آرائنا وندير أمورنا بالشورى الملزمة للجميع.
قد يكون عبد المنعم أبو الفتوح أحب إلي قلبي من الشاطر، وقد يكون أفضل منه أيضًا ولكن لنا ثوابت لا نحيد عنها:
- التوحد على المفضول أفضل من التفرق على الفاضل.
- كدر الجماعة خير من صفو الفرد وأجدى.
- رأيي الراجح يتوارى أمام رأي الجماعة المرجوح (عندي) وفي هذا السلامة.
الخلاصة نحن ندور مع رحى الجماعة حيث دارت نتترس بها وننضوي تحت لوائها ونبذل جهدنا في سبيلها وخلاصة فكرنا من أجلها ففي هذا السلامة والأمان.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
Comments