عندما تتعرض دوله القانون لبطجه السياسيه- مقال لالااستاذ فهمي هويدي
ذلك أن الحكم ـ والقضية برمتها ـ كشفت عن أمرين مهمين هما:
أنه مازالت في مصر كتيبة من المثقفين المحترمين والشجعان، الغيورين على الدفاع عن المجتمع ومصالحه العليا. وهم ينتمون إلى أرض هذا البلد وناسه وحلمه، ولأنهم كذلك فقد عزفوا عن الاتجار بالسياسة ونأوا بأنفسهم عن ألاعيبها، ولم ينخرطوا في أي من الأحزاب المصطنعة التي أصبحت تستمد قوتها ووجودها من رضاء السلطة عليها والصفقات التي تعقدها معها.
هم ليسوا معروضين للبيع، شأنهم شأن غيرهم من المثقفين الذين استجابوا للغواية وضعفوا أمام المناصب والوجاهات، فتحولوا إلى مهرجين وحواة، واختاروا أن يكونوا أبواقا للسلطة وقطعا من الديكور الذي يجملها، بعدما تخلوا عن ضمير المجتمع وباعوه في أول منعطف،
هؤلاء المثقفون المحترمون الشجعان ـ الرجال منهم والنساء ـ هم الذين طعنوا في وجود الحرس التابع لوزارة الداخلية داخل الحرم الجامعي،
وهم الذين طعنوا في فرض الحراسة على النقابات المهنية.
وهم الذين طلبوا فسخ عقد «مدينتى» لما شابه من فساد وتواطؤ،
وهم الذين وقفوا ضد بيع وحدات القطاع العام، وهم الذين طلبوا وقف تصدير الغاز لإسرائيل. ورفعوا قضايا طالبت بفتح معبر رفح وإزالة الجدار الذي أقيم بين مصر وقطاع غزة.. الخ.
الأمر الثاني الذي لا يقل أهمية، هو أن تلك المبادرات ما كان لها أن تحفظ لنا جذوة الأمل، لولا ذلك الرهط من القضاة المحترمين بدورهم والشجعان، الذين تمتعوا بالنزاهة والغيرة والشجاعة، غير مبالين بغوايات السلطة وأهوائها ـ
ولأنهم نصبوا أنفسهم حماة لمصالح الوطن وحراسا للحق والعدل، فإنهم أصدروا تلك الأحكام المنيرة التي ردت إلينا الروح وانتشلتنا من هوة الإحباط واليأس. ورغم أن الأحكام التي صدرت عن الإدارية العليا احتلت الواجهات لأن أخطاء الحكومة كثيرة وجسيمة والقضاء الإداري هو المختص بها، فإننا لا نستطيع أن نغفل أحكام القضاء العادي في قضايا أخرى عديدة، أبرزها حكمه في قضايا التعذيب، وأحدثها الحكم على السفير الإسرائيلي في مصر بدفع تعويض قدره عشرة ملايين دولار لأسرة جندي مصري من المحلة الكبرى قتلته دبابة إسرائيلية عمدا مع اثنين من زملائه على الحدود مع قطاع غزة.
ولا تحسبن أن استقامة القاضي واستقلاله وعدم اكتراثه بحسابات السلطة وغواياتها بالأمر السهل في هذا الزمن، لأن أمثال هؤلاء القابضين على جمر النزاهة يدفعون ثمن موقفهم ذاك. لأن غيرهم من «المتجاوبين» و«المتعاونين» لهم حظوظهم من المكافآت وعطايا السلطة، التي لا تبخل عليهم بالتعيين في وظائف المحافظين والاستشاريين وأعضاء مجلس الشورى. في حين يحال الأولون إلى التقاعد في صمت لكي يغرقوا في بحر النسيان بمضي الوقت.
حفاوتنا بحكم «طرد» الحرس من الجامعات لا ينبغي أن تنسينا أننا بصدد رحلة طويلة وشاقة. لأن قدرة السلطة على العناد والالتفاف لا حدود لها. فقضية بطلان الحرس الجامعي مثلا منظورة أمام المحاكم الإدارية منذ سنتين. وقد ظلت وزارة الداخلية تراوغ وتستشكل فيها حتى أوصلتها إلى المحكمة العليا التي حسمت الأمر أخيرا.
ورغم ذلك فلن تعدم الأجهزة الأمنية سبيلا إلى بسط نفوذها وهيمنتها على الجامعات، خصوصا بعدما أصبحت تتحكم في تعيين المديرين والعمداء والوكلاء، حتى إن بعضهم صاروا من رجالها. ولا أستبعد أن يصبح إلغاء الحرس مماثلا لإلغاء الرقابة على الصحف. حيث سحب الرقباء واستبدلوا برؤساء للتحرير ومديرين صاروا أكثر شدة وغلوا من الرقباء.
صحيح أن المشكلة أكبر من حكم المحكمة، لكن يكفينا أن أولئك الشرفاء قاموا بما عليهم، وأعطونا أملا في المستقبل.
Comments